بلاع الصبايا حمام الذهب

 

بلاع الصبايا حمام الذهب 



تشتهر تونس بحماماتها التقليدية التي تنتشر في جميع مدنها، حيث أصبحت جزءًا لا يتجزأ من تراثها الثقافي. فالنساء في تونس اعتدن على زيارة هذه الحمامات بشكل مستمر، حتى أن الأعراس لا تخلو من أجواء الفرح والبهجة والغناء داخلها. يُعتبر الحمام بمثابة مسرح نسائي يجتمع فيه الحديث والمزاح والسرور، وهو الحال نفسه في بقية الدول المغاربية مثل الجزائر والمغرب.

تضم تونس العديد من الحمامات القديمة مثل حمام الرميمي وحمام الطابع، الذي بدأ العمل فيه منذ عام 1221 هجريًا، وهي فترة تعود لزمن بعيد. يضفي هذا التاريخ العريق على الحمام سحرًا خاصًا مستوحى من التراث القديم، مما يذكّرنا بقصص "ألف ليلة وليلة" حيث كانت الجواري يجتمعن في الحمام يعزفن على العود ويرقصن ويقُلْن الأشعار في أجواء مبهجة لا يعرف أسرارها سوى النساء. فالحمام، وبالأخص الحمام العمومي أو حمام السوق، لم يكن مجرد مكان للاغتسال، بل كان فضاءً لتبادل الأحاديث والأخبار، على عكس الرجال الذين يرون فيه مكانًا للنظافة والاسترخاء تحت تدفق المياه وبخارها الدافئ.

ومن دون إطالة، أود أن أشارككم أسطورة رائعة تحيط بها أجواء من الغموض والحيرة، حيث تتعلق بحالة اختفاء غامضة لم يُعرف سببها حتى اليوم. وقد نسجت حول هذه الحادثة، التي يُقال إنها واقعية، العديد من الحكايات التي أُضيفت إليها أحداث ومزجت بخرافات، مما أدى إلى ضياع أصل القصة، لكنه في الوقت نفسه زاد من روعتها وتشويقها وشهرتها، حتى تم تجسيدها في فيلم سينمائي – لا أنصحكم بمشاهدته نظرًا لاحتوائه على مشاهد مثيرة.

يوجد الحمام الذهب، المعروف أيضًا بحمام الرميمي،  بجوار سيدي محرز، ويُعتبر من اول الحمامات في تونس. يُطلق عليه ايضا اسم "بلاع الصبايا"، وهو وصف باللهجة المغاربية يعني "آكل الفتيات" ، نظرًا لأنه شهد اختفاء فتاة شابة جميلة في ظروف غامضة.


تعود القصة إلى زمن بعيد، حيث كان هناك شاب وسيم مغرم بابنة عمه التي كانت فائقة الجمال. كان يتابعها بنظراته منذ صغرها، ولم يكن يغفل عنها يومًا، فقد شغلت تفكيره ليلًا ونهارًا، وكانت تبادله نفس المشاعر. نشأ بينهما حب عميق وعشق لا ينتهي، حتى أصبح مستقبل الشاب مرتبطًا بموافقة عائلة الفتاة. إذا رفضوا تزويجها له، كان مستعدًا لإنهاء حياته.


كان الشاب معروفًا بسمعته الطيبة وأخلاقه الرفيعة، وكان فارس أحلام العديد من الفتيات في ذلك الوقت. ذات يوم، قرر التقدم لخطبة الفتاة، وجاء رد عائلتها بالإيجاب، حيث كانت الفتاة جميلة وناضجة، وأصبحت محط أنظار جميع الرجال، مما جعل عائلتها تفكر في زواجها لتجنب الوقوع في الحرام. تم تحديد موعد الزفاف، وجمعت الأهل والأصدقاء للاحتفال.


حضرت الطبول والخيول، وتزينت المدينة لاستقبال العروسين، وأقيمت حفلات رقص وغناء، حيث كان الرجال في قاعة والنساء في أخرى، إذ كانت العفة رمزًا أساسيًا في ذلك الزمن. استمتع الجميع بالاحتفال، لكن العريس طلب طلبًا غريبًا، حيث كان حبه الكبير لعروسه سببًا في فقدانها إلى الأبد. فقد أراد منها أن ترتدي بذلته في طريقها إلى الحمام حتى لا يتحرش بها الرجال، نظرًا لغيرته الشديدة.


استجابت الفتاة لطلب عريسها، وأعدت أدوات الحمام وتوجهت إليه بملابس صبيانية. عند دخولها الحمام وذهابها إلى المطهرة، انشغلت قليلاً بتسريح شعرها الطويل الأسود، وبقيت وحدها لبعض الوقت حتى وصلت بقية الفتيات. لكن المفاجأة كانت أنها اختفت تمامًا من المطهرة وكافة أركان الحمام، كأنها تبخرت.


تم إخلاء المطهرة من النساء، وجاء العريس يناديها، والغريب أنها أجابته لكنها كانت محصورة داخل الجدار. ادعى الحمام أنها ابتلعتها، وبدأت تبكي. أحضر العريس فأسًا وبدأ يحفر، لكن دون جدوى، فقد كانت جدران الحمام صلبة جدًا. وكلما حفر أكثر، كان الصوت يبتعد ويخف. حتى استسلم للأمر الواقع وعاد إلى منزله، وهو في حالة من الذهول.


أما الحمام، فقد عاد إلى نشاطه المعتاد، لكن الغريب أنه شهد في إحدى الليالي خروج شعر امرأة بكثافة وسرعة من بين الجدران. أدرك صاحب الحمام أن إخبار الناس بذلك سيجعلهم يخافون ولن يأتوا مرة أخرى، مما سيؤثر على رزقه، فقرر عدم إخبار أحد. بدأ يقص الشعر المتدفق كل ليلة ويستخدمه في إشعال نار غرفة المياه الساخنة. استمر على هذا الحال حتى اختفت الظاهرة، ربما بموت الفتاة.


تحول حمام الذهب إلى رمز من رموز الثقافة التونسية وأسطورة تستحق القراءة. إذا نظرنا إلى الأحداث، نجد أن حقيقة الاختفاء واقعية، لكن جهل الناس في ذلك الوقت وإيمانهم بالخرافات جعلهم يربطون القصة بالجن والعالم الآخر. اعتقدوا أن الجن الذي يسكن الحمام قد خطف الفتاة لجمالها أو لأنها ارتدت ملابس الرجال.


من وجهة نظري، قد تكون الفتاة تعرضت للقتل بسبب جمالها، ربما على يد صديقات غيورات، أو اختطفها شاب يحبها ولم يرغب في أن تتزوج غيره، أو ربما هربت بإرادتها مع عشيق سري. هذه كلها احتمالات غير مستبعدة، والله أعلم.

تعليقات